" رغم تعذر جمع القطط في قطعان
إلا أن وجودها بأعداد كافية قد يثير ضجيجاً لا يمكن تجاهله" ريتشارد
دوكنز.
المقولة السابقة تمثل السياسة العامة لملحدي اليوم، فهي دعوة لتحفيز اتباعهم على ترك الخجل من إلحادهم والوقوف صفاً واحداً لمحاربة عدوهم المشترك، وهو الإله، فيحولون جاهدين إظهار حجج المؤمنين بمظهر سطحي ، يقول الفيلسوف جيرمي وولدرون حول المواقف التي يبديها الملحدون تجاه الحجج الدينية: "غالباً ما يدعي الملحدون بأنهم يعرفون ماهية الحجج الدينية، فهم يقدمونها كأنها وصفة بسيطة من قبل الإله، مدعومة بالتهديد بنار جهنم، ومستمدة من الوحي العام او الخاص، ويقارنونها مع التعقيد البديع لأحدى الحجج الفلسفية لرولز مثلاً او دوركن. ومع هذه الصورة في الذهن يعتقدون انه من الواضح أن الحجة الدينية ينبغي اقصائها من الحياة العامة.. غير إن العلماء يدركون انه تصوير مشوه للأمور". الخرافة الأخيرة.. تفنيد الإلحاد الجديد، إدوارد فيزر، ص53.
ونحاول في هذه المقالة عرض أحد هذه الأدلة ويعرف بالدليل الاستقرائي، القائم على حساب قيمة الاحتمال، وهو الدليل المعتبر في المعاهد والجامعات العلمية كافة، ففي كل ظاهرة او اكتشاف علمي يتبع العلماء منهجاً وطريقاً لإثبات نظرياتهم العلمية يتكون من ثلاث خطوات رئيسة، هي:
1. ملاحظة جملة من الظواهر والحالات التي يوجد بينها ترابط معين.
2. بعد الملاحظة وتجميع المعطيات السابقة، نقوم بإعطاء فرضية صالحة لشرح وتفسير سبب وجود وظهور هذه الأمور.
3. نتحقق من صحة الفرضية الموضوعة في الخطوة الثانية من خلال البحث عن إمكان ظهور هذه الأمور من دونها، فإذا حددت الفرضية الموضوعة في الخطوة الثانية ان سبب ظهور هذه الظواهر والحالات هو الأمر الفلاني، فيمكن التحقق من صحتها من خلال البحث عن إمكانية ظهور هذه المظاهر من دون السبب الذي حددته فرضيتنا، فإذا وجدنا انه من الصعب تحققها بدونه، يتأكد عندنا صحة النظرية، وكلما كان احتمال وجود هذه الظواهر بدون السبب الذي حددته النظرية أضعف كأن يكون احتمال ذلك لا يتجاوز الواحد بالمائة يزداد علمنا بأن السبب الذي حددته النظرية هو السبب الحقيقي حتى نصل الى اليقين التام بذلك.
هذه هي طريقة العلماء في إثبات أي حقيقة علمية، بل هي طريقة كل واحد منا في حياته اليومية، فمثلاً إذا استلمت رسالة ورقية فتعرف انها من أخيك لا من شخص آخر، فأنت اكتشفت انها من اخيك بواسطة الطريقة المتقدمة ذات الخطوات الثلاث، فأنت في الحقيقة مارست نفس المنهج المتبع من قبل العلماء في اكتشاف حقائق الأشياء. فالخطوة الأولى تواجه فيها ظواهر عدة، من قبيل ان الرسالة تحمل اسم اخيك تماماً وقد كُتبت بنفس خطه، وبنفس الأسلوب المعتاد منه، بل انه حتى وقع بنفس الأخطاء الاملائية والقواعدية المعتادة، وذكر أسراراً وقضايا لا يعلمها احد غيره.
وبعد جمع هذه الظواهر تضع في الخطوة الثانية فرضية صالحة لتفسيرها، وهي أن تكون الرسالة من اخيك، فإنها إذا كانت منه فمن الطبيعي اشتمالها على كل المعطيات والظواهر التي لاحظتها في الخطوة الأولى.
وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من اخي، فما هي فرصة أن تتواجد فيها كل تلك المعطيات التي لاحظتها في الخطوة الأولى؟ إن هذه الفرصة بحاجة الى مجموعة كبيرة من الافتراضات، لأننا لكي نحصل على كل تلك المعطيات، يجب ان نفترض وجود شخصٍ آخر يحمل نفس اسم اخي، واسلوبه في الكتابة يشابه أسلوب اخي تماماً، حتى اخطاءه المعتادة هي نفس أخطاء اخي صدفة، ويعلم نفس المعلومات التي يعلمها اخي عني، والتي قد لا يعرفها غيره، فاحتمال ان شخصاً آخر كتب الرسالة يتوقف على اجتماع كمية كبيرة من الصدف، مما يجعل احتمال كون الكاتب للرسالة شخص آخر احتمالاً ضعيفاً جداً.
فالموقف الطبيعي ان أهمل هذا الاحتمال الضعيف واعتمد الفرضية الأولى القائلة بأن أخي هو الكاتب، وكلما زاد عدد الصدف في الاحتمال الآخر ازداد الاحتمال ضعفاً وقلت قيمته العلمية حتى يصل الى مستوى لا يمكن ان يلتزم به أحد لظهور ضعفه مقابل الاحتمال الآخر.
بعد أن عرفنا المنهج العلمي العام للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات نمارس تطبيقه الان على الاستدلال لإثبات الخالق، من خلال اتباع الخطوات الثلاث السابقة:
الخطوة الأولى: نلاحظ مجموعة كبيرة من الظواهر المنتظمة والمتكررة والتي تشترك جميعها في توفير حاجات الانسان في هذه الأرض وتيسير حياته، بنحو لو فقدت أي ظاهرة من هذه الظواهر لامتنعت حياته على هذه الأرض. وفيما يلي بعض هذه الظواهر:
تتلقى الأرض من الشمس كمية من الحرارة تكفي لمدها بالدفيء لنشوء الحياة، وإشباع حاجة الكائنات الحية من الحرارة لا أكثر ولا اقل. وقد لوحظ علمياً ان المسافة بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملاً مع كمية الحرارة المطلوبة من اجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن، لما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الان، لتضاعفت الحرارة الى الدرجة التي لا تطيقها الكائنات الحية.
ونلاحظ ايضاً ان نسبة الاوكسجين الموجود في الهواء يتناسب تماماً مع حاجة الكائنات الحية له، فما يقارب80% من الاوكسجين محتجز في قشرة الأرض والمحيطات، لشدة تجاوبه من الناحية الكيمياوية مع مكونات الأرض والمياه، لكن رغم ذلك بقيت نسبة 21% منه طليقة في الهواء وهو المقدار الذي تحتاجه الكائنات الحية في تنفسها لا أقل من ذلك ولا أكثر، فلو زادت نسبته لتعرضت البيئة الى حرائق كبيرة جداً لسرعة اشتعاله، ولو كان أقل لتعذرت الحياة ولما توفرت النار بشكل يسهل الحصول عليه، لكن وجوده بهذه النسبة واختلاطه مع باقي الغازات، تحديداً النيتروجين الموجود في الهواء جعله بنحو يمكن الاستفادة منه من دون ضرر. فالنيتروجين بوصفه غازاً ثقيلاً يقوم عند انضمامه الى الاوكسجين في الهواء بتخفيفه للحد المناسب لتنفس الكائنات الحية، ولا يساعد على انتشار الحرائق، وهنا لاحظ العلماء ان نسبة الاوكسجين المطلقة في الهواء 21% تتناسب تماماً مع كمية النيتروجين الموجود فيه78%، فلو زادت نسبة الاوكسجين او قلت نسبة النيتروجين لما حصلت الخلطة المناسبة منهما والتخفيف المناسب للأوكسجين.
كما نلاحظ عملية تبادل المنفعة بين النبات والحيوان، فكما هو معروف يقوم النبات بإنتاج ما يكفي الكائنات الحية الأخرى من الاوكسجين، من خلال سحب ما يفرزه الانسان وباقي أنواع الحيوان من ثاني أوكسيد الكاربون، فيقوم النبات بسحب ثاني أوكسيد الكاربون وفصل الاوكسجين منه ليعود بطرحه في الهواء ليستفيد منه الانسان وباقي الحيوانات، ولولا ذلك لتعذرت الحياة على الانسان نهائياً.
كما ان نفس كمية الهواء الموجود في كوكب الأرض تتناسب مع وجود وبقاء حياة الانسان فيه، فلو زادت نسبة الهواء في الكوكب لتسبب في زيادة الضغط الجوي والذي يمتنع معه ظهور الحياة، وإذا قلت نسبة الهواء في الكوكب لضعف الغلاف الجوي ولسمح بدخول الشهب وضرب الأرض، والذي يمتنع معه بقاء الحياة.
كما ان قشرة الأرض التي تمتص ثاني أوكسيد الكاربون والأوكسجين، مجعولة بسُمك معين لا يسمح بامتصاص كل الاوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون، ويقول العلماء ان قشرة الأرض لو كانت أكثر سمكاً من هذا بقليل لامتصت هذين الغازين وتمتنع حينئذ الحياة على الأرض. وهكذا ملايين الظواهر الكونية الأخرى التي لا جامع بينها غير انها مسخرة لوجود حياة كائن معين هو الانسان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، لقمان: 20.
الخطوة الثانية: نجد ان هذا التوافق بين ملايين الظواهر والتي تصب جميعاً في خدمة الانسان يمكن ان يُفسر بفرضية واحدة وهي: ان نفترض الهاً خالقاً حكيماً لهذا الكون قد أراد أن يوفر في هذه الأرض جميع ما يحتاجه الإنسان وتتوقف حياته عليه.
الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الخالق الحكيم صحيحة وثابتة في الواقع فما مدى احتمال أن تتواجد كل الظواهر الطبيعية السابقة من دون ان يكون لها هدف مقصود؟ من الواضح ان احتمال ذلك أي احتمال وجود كل هذه الظواهر من دون هدف يعني افتراض كمية هائلة من الصدف، فوجود الكمية المناسبة من الحرارة والهواء والاوكسجين وغيرها كله ناتج من صدف، فصادف ان يبقى في الهواء الكمية المناسبة لحياة الانسان من الاوكسجين، وصادف ايضاَ ان تكون قشرة الأرض بهذا الحد لكيلا تمتص كل الاوكسجين في الجو وتترك نسبة معينة منه لتنفس الكائنات، وصادف مرة أخرى ان تكون نسبة النيتروجين بمقدار كاف لتخفيف الاوكسجين وهكذا الى مليارات الصدف. ومن الواضح ان احتمال وجود كل هذه الظواهر صدفة يعتبر احتمالاً في منتهى الضعف، ولا يمكن ان يعول عليه عاقل.
فإذا كنت ترى احتمال ان تكون الرسالة من غير أخيك احتمالاً تافهاً ولا قيمة له، نتيجة توقفه على وجود أربع او خمس صدف، فما بالك إذا كان احتمال وجود هذه الظواهر بهذا التوافق والانسجام يتوقف على مليارات الصدف!!
وهكذا نصل الى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون إلهاً خالقاً حكيماً، من خلال اكتشاف التناسق والانسجام بين الظواهر الكونية واشتراكها جميعاً في المساعدة على وجود الانسان هنا وتيسير حياته.
ومن هنا نجد الكثير من العلماء قد أقروا بهذه الحقيقة، نذكر لك جملة منهم:
يقول مايكل دنتون، في كتابه (معجزة الإنسان.. كيف سخرت الطبيعة لصالح الوجود البشري، ص222): "تشير الأدلة بشكل متزايد إلى نظام طبيعي مناسب ومسخر بشكل فريد للحياة على الأرض وبالأخص لنا نحن البشر الكائنات الحية المنتصبة، وهي وجهة نظر لا تثبت الإطار الكتابي والديني التقليدي ولكنها تتفق معه تماماً".
بل حتى بعض العلماء الملحدين أقروا بها، منهم ستيفن هوكنج عالم الفيزياء النظرية والكونية ومدير الأبحاث في مركز نظريات علم الكونيات في جامعة كامبريدج: "الحقيقة اللافتة هي انه قيم هذه الأرقام تبدو مضبوطة بدقة شديدة للسماح بنمو الحياة". كتاب الضبط الدقيق لقوانين الطبيعة، لوك بارنز.