الابتكار.. الثروة التي تم اهمالها: ما هو مفهوم الابتكار، وما علاقة التقدم في
المجتمعات والدول بسياسات الابتكار، وما هي علاقة الابتكار بالعلم
والمعرفة، وما هي العلاقة بين الابتكار والإبداع؟
***
والفرق بين العلم والمعرفة هو أن العلم نظري وهو مجرد معلومات يكتسبها المتعلم، بينما المعرفة هي إدراك ووعي لعلم وتحويله إلى مخرجات على أرض الواقع، لذلك فان المعرفة المتقدمة هي في الابتكار والقدرة المستدامة على إيجاد الحلول، وخلق الأشياء الجديدة التي تلبي حاجات الإنسان.
ان العلوم موجودة في كل الأزمنة والامكنة، في الجامعات والمدارس ولكن هل هي كلها معرفة ام مجرد علوم؟، لذلك فإن الأمم تتقدم بالمعرفة وليس بالعلم فقط.
فقد كانت أمريكا تستقطب الكفاءات العلمية من مختلف دول العالم وتحولها إلى ابتكارات في السوق، لذلك دائما ما كانت متميزة في الصناعة والاقتصاد والتكنولوجيا والتكنولوجيا الرقمية ومختلف العلوم الاخرى، فأمريكا يقال عنها انها أم الابتكارات، فمعظم الاختراعات خرجت من أمريكا، لذلك أصبحت هي القوة المهيمنة في العالم، وليست بالقوة العسكرية والاقتصادية فقط، فعندما تقرأ الاحصائيات والارقام عن براءات الاختراع سوف تجد أن أمريكا كانت متقدمة دائما، وبهذا استطاعت أن تتغلب على الاتحاد السوفيتي سابقا.
لكن أمريكا اليوم حين انشغلت بالدولار الريعي وغرقت في عالم الاستهلاك الصاخب، خرجت عن اطوار الانتاج فانخفضت عندها قيمة الابتكار، وفي نفس الوقت فان الصين صعدت في قائمة الابتكار ليس في الاقتصاد فحسب وإنما أيضا في براءات الاختراع التي جعلتها متقدمة واصبحت منافسة حقيقية للولايات المتحدة.(1)
غياب الابتكار في العراق
بالنسبة الى العراق يمكن أن نلاحظ عدة أسباب في غياب الابتكار:
أولا- هيمنة النظام القمعي: سواء كان القمع السياسي أو الاجتماعي أو التربوي، وخصوصا القمع الخفي الذي يتجلى في عملية رمزية موجودة في بنية المجتمع، فنلاحظ أن الإنسان منذ نعومة أظفاره وهو طفل صغير لا يستطيع أن يفكر، ولا يخلق ولا يبتكر لأنه يخاف من أبيه أو من المعلم أو من الحاكم، أو من النظام السياسي والأجهزة الامنية، لذلك فهو يتجنب التفكير وبالتالي تأفل عنده حالة الابتكار أو أنه بالنتيجة لا يستطيع أن يعبر ويصل إلى حالة الابتكار.
ثانيا- الدولة البيروقراطية الجامدة: إن مشكلتنا تكمن في أننا نحتمي بالدولة، لكن الدول سيف ذو حدين، فإذا اصبحت الدولة متمكنة وخارج سيطرة الشعب سوف تصبح بيروقراطية جامدة وادواتها مؤذية للمجتمع، وتمنع الشعب من التقدم، فبعض الحكومات تسن قوانينها حتى تحمي نفسها وسلطتها ومصالحها عبر استعباد الناس حتى تزيد من هيمنتها، وهذه العقلية الجامدة يصعب تغييرها بسبب تحجرها، فالدولة البيروقراطية كائن متحجر يمنع أي تطور حركي أو ديناميكي يحتاجه المجتمع لحل أزماته.
ثالثا- ريع الدولة: فالدولة الريعية تمنع الابتكار، لأن الأموال المجانية تجعل الانسان متطبعا مع الاستهلاك ومعاديا للإنتاج لذلك يموت الابتكار، في حين ان الابتكار ينمو في بيئة الانتاج، فالاقتصاد الريعي غير تنافسي فيمنع الابتكار، وبالنتيجة سوف يضمحل القطاع الخاص الانتاجي الذي يشجع على الابتكار.
رابعا: التعليم التقليدي: وهو تعليم عقيم ليس فيه أية فائدة تذكر، ولا يربي على التفكير، بل تلقيني يشجع على عدم التفكير وعدم الابتكار، بل يقمع الابتكار والتفكير.
خامسا: هيمنة ثقافة الاستهلاك والاستيراد: فمع استفحال الاستهلاك المستورد تغيب الحاجة الى الإنتاج والابتكار، بينما من أسباب وجود ثقافة الابتكار هو التوجه نحو الاكتفاء الذاتي، الذي يترسخ في الحاضنات الاجتماعية والتخطيط الاقتصادي السليم.
أزمات شبكية متراكمة
يمتلئ العراق بالأزمات التي تتسبب بهدر الموارد، فتتراكم الأزمات وتصبح متشعبة وشبكية ومتزايدة، وذلك لان مواردنا تُهدَر باستمرار بسبب غياب الحلول الاستراتيجية التي تعتمد على الابتكار، فتحصل عملية الترقيع وتستمر في بناء تراكمها السيء، لأننا لا نعتمد على التفكير المستقبلي والتخطيط الاستراتيجي وعلى وجود عقول مبتكرة تحل الأزمات عبر استكشاف الحلول لاستدامة الموارد واستثمارها العميق.
فالنفط في العراق لا يكفي لوحده في حل مشكلة المياه والجفاف والكهرباء، بل بالاستفادة من العقول، فالعراق وإن كان يغص بالمشكلات الكثيرة ولكنه ممتلئ بالعقول والشباب والأفكار الجيدة، ولكن بالنتيجة لا أحد يهتم بهذه العقول وهذا هو الهدر الأكبر من هدر الموارد الطبيعية، ونعني به هدر الموارد البشرية، فكم هناك من الشباب الذين يمتلكون العقول الجيدة المبدعة المبتكرة التي نستطيع من خلالها خلق وديمومة عملية البناء؟.
الاستثمار في الابتكار
ان القدرة على استثمار الابتكار هو بحد ثروة فكيف نشجع ثقافة الابتكار؟
أولا: إن التحول الاقتصادي عنصر اساسي في عملية الاستفادة من الابتكار كثروة في عملية إحلالها محل الموارد الأخرى.
ثانيا: المبادرة المجتمعية: حيث لا يوجد لدينا حل غير المبادرة المجتمعية النابعة من المؤسسات المستقلة، لأن الدولة غير مستعدة للقيام بهذا الدور كونها متآكلة ومضمحلة وغير قادرة على المبادرة، لذلك فإن المبادرة المجتمعية لاحتضان أفكار الابتكار سوف تشجع ثقافة الابداع والانتاج، وبالنتيجة القدرة على إيجاد الحلول، ومن ذلك تأسيس مؤسسات خاصة بالابتكار أو معاهد خاصة للتربية على الابتكار والابداع، ومدارس خاصة تحتوي وتحتضن الطلبة المتفوقين على أن يكون نظامها متميز ديناميكي وغير قائم على النظام التعليمي التقليدي الجامد.
ثالثا: ومن تشجيع المجتمع على الابتكار هو إقامة مسابقات تقدم فيها جوائز مالية مجزية للمبتكرين، وإذا نجحت هذه المبادرات فسوف تنتشر، فنحن نحتاج إلى نموذج واحد ناجح في المجتمع فنلاحظ أن الآخرين يحاولون أيضا أن يقلدوا ذلك، فالابتكار يؤدي إلى الابتكار، وهي خطوة أساسية في عملية التحول نحو المستقبل لابد لنا أن نسعى إليها حتى لو كانت إمكانياتنا قليلة، فيجب أن نبدأ الخطوة الأولى من أجل حصول الخطوات اللاحقة.
رابعا: ان الحل يكمن في الأفكار المتجددة، فإذا أردنا أن نقرأ المستقبل العراقي فلا يوجد لدينا حل غير الأفكار والابتكارات المتجددة، وهذه من مصادر القوة الناعمة الأساسية التي نحتاجها، فالشرق الأوسط مقبل على أزمات خطيرة جدا، والصراع الذي يحدث بين هذه الدول لا يعتمد فقط على الموارد الطبيعية، فالموارد الطبيعية موارد خطرة ان تركت لوحدها دون استثمارات حقيقية، والا فان العراق سيبقى تابعا ومحتاجا للآخرين وخصوصا في ملفات الماء والكهرباء والغاز. فالعراق إذا أراد أن يتخلص من الهيمنة والتبعية لابد أن تكون عنده حركة ابتكارية وحلول جديدة يستفيد من خلالها في بناء استقلاليته وحل مشكلاته.
خامسا: حماية الملكية الفكرية والتي هي أساس حماية الابتكار، لأنه إذا لم توجد حماية للملكية الفكرية فبإمكان أي شخص يأتي ويصادر الابتكار، وبالنتيجة تصبح هذه الابتكارات غير مجدية وغير مفيدة.
سادسا: ان أهم خطوة في حل الازمات واستثمار الموارد هو أن نتخلص من ثقافة الكسل والجمود وانتظار الحلول، فهذه ثقافة غير مجدية ولا تصل بنا إلى أية نتيجة، وعندما يأتي الوقت المحدد سوف نواجه المخاطر الكبيرة التي نقع فيها بسبب نزف الموارد وإهمال الابتكار من الدولة والشعب.
ان أي تحول وتغيير تبحث عنه النخب والجماعات في ظل حالة التصدأ واجواء التصلب، لابد ان يبدأ من خلال استثمار ثروة الرأسمال البشري، وإيجاد الحاضنات التنموية التي تخلق التفكير الإبداعي والمهارات المتطورة التي تفتح بوابات الابتكار وقاطرات الإنتاج. والا فإن الثورات الفوضوية الهائجة هي نتيجة لإهمال الثروة البشرية وتمركز التخلف والبؤس في الهامش المنسي.