شنت المقاومة الفلسطينية في غزة
هجوماً مفاجئاً على الكيان الصهيوني أطلق على العملية اسم (طوفان
الأقصى)، مما أثار ردا فعليا قويا من جانب الكيان، وقد اعتبرت حماس
هذه العملية، التي ادت إلى سقوط أكثر من ٢٥٠ قتيل، واكثر من ١٠٠٠
جريح بمثابة انتقام من الإجراءات الإسرائيلية، مثل الحصار المستمر
على قطاع غزة والتوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة
الغربية.
بالمقابل اعلنت إسرائيل "حالة
الحرب" مع سقوط الاف الصواريخ من قطاع غزة، وأطلق الجيش الإسرائيلي
صفارات الإنذار في جميع أنحاء المناطق الجنوبية والوسطى، وحث
الإسرائيليين على البحث عن مأوى في منشآت مضادة للقنابل.
في ضوء ذلك سنحدد المضامين والابعاد لهذه العملية وفق الاحداث ومقدماتها ونتائجها وماسيتمخض عنها:
اولا/ المضامين
تتجسد مضامين هذه العملية بتصاعد قدرات المقاومة الفلسطينية المتمثلة بحماس، اذ اعلنت حركة حماس الفلسطينية مسؤوليتها عن الهجمات الصاروخية، واطلق مقاتليها أكثر من ٥٠٠٠ صاروخ، وأعلنت الحركة في بيان لها: "لقد قررنا وضع حدا لجميع جرائم الاحتلال فقد انتهى زمن يهاجم دون محاسبة".
كما تمثل الهجمات الصاروخية تصعيداً مثيراً لقلق الكيان الصهيوني والمجتمع الدولي خاصة الحلفاء الداعمين؛ نظرا لنوعية العملية وضخامتها وجرأتها واختراقها القدرات الاستخبارية الاسرائيلية، خاصة حينما تم تداول مقاطع فيديوية على وسائل التواصل الاجتماعي تصور مسلحو المقاومة الفلسطينية داخل بلدة سديروت الحدودية الإسرائيلية بتنفيذ العملية.
مقدمات هذه العملية جاءت نتيجة تصاعد التجاوزات الصهيونية وحصول اشتباكات عنيفة في الضفة الغربية بشكل مستمر، حيث أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين إلى مقتل ما يقرب من ٢٠٠ فلسطيني هذا العام، وفي حين تدعي إسرائيل أن هذه الغارات تستهدف المسلحين، فقد وقعت خسائر في صفوف المتظاهرين الذين كانوا يرشقونها بالحجارة والمارة الأبرياء.
وعلى العكس من ذلك، أدت الهجمات الفلسطينية على أهداف إسرائيلية إلى مقتل أكثر من ٣٠ شخصاً، وامتدت هذه التوترات أيضا إلى غزة، حيث نظم الناشطون التابعون لحركة حماس مؤخراً مظاهرات حاشدة على طول الحدود الإسرائيلية، توقفت هذه المظاهرات قبل ايام بعد جهود الوساطة الدولية، مايجعل من هذه العملية مباغتة ومفاجئة.
جسدت مضامين هذه العملية تسليط الضوء مرة أخرى على الشرق الأوسط في دائرة المجتمع الدولي واعادت التركيز على الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، كما اكدت تبعات هذه العملية على القضايا المعقدة والجذور العميقة والعوامل التاريخية لفهم طبيعة الصراع ومقدماته الدينية والاجتماعية والسياسية التي اسهمت في هذا الصراع الدائم، بشكل يضع الكيان الصهيوني على انه يمارس دور عنفي احتلالي ضد الفلسطينيين، ويضع حركات المقاومة في موضع الدفاع ومشروعية الهجوم.
ثانيا/ الابعاد
1- الديناميات السياسية:
اذ رسمت هذه العملية المشهد السياسي في المنطقة بشبكة معقدة من الجهات الفاعلة والمصالح، فمن ناحية مكافحة إسرائيل، للحصول على الاعتراف العربي الفلسطيني بها كدولة مستقلة، واتبعت اساليب الترهيب والترغيب منذ عام ١٩٤٨، وسعت لإيجاد حل دائم للصراع مع ضمان أمنها ووجودها. وعلى الجانب الآخر، اتبعت الجماعات الفلسطينية مثل حماس وفتح استراتيجيات مختلفة لتحقيق الاستقلال، وكثيراً ما لجأت إلى المقاومة المسلحة وخاصة حماس والفصائل الاخرى.
في حين انحدرت المواقف العربية من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من دخول اربعة حروب مباشرة مع الكيان الى المقاطعة والتنديد وصولا الى التراخي والتطبيع باستثناء محور المقاومة الداعم للقضية الفلسطينية لغاية الوقت الحاضر.
٢- العوامل الاجتماعية والاقتصادية:
ان الظروف الاجتماعية والاقتصادية في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في غزة، ساءت على مر السنين بسبب مجموعة من العوامل. أدى الحصار الذي فرضته إسرائيل ومصر إلى الحد بشدة من حركة الأشخاص والبضائع، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وانعدام الأمن الغذائي وعدم كفاية فرص الحصول على الرعاية الصحية والتعليم. وقد أثار هذا الوضع المزري الإحباط والاستياء بين الفلسطينيين، كما أن الوضع في إسرائيل معقد أيضاً، في ظل قضايا عدم المساواة والتمييز ضد المواطنين العرب والجدل المستمر حول توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، والتي يعتبرها المجتمع الدولي غير قانونية، وبالتالي فان اهم الابعاد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، هو تجاوز معايير حقوق الانسان من قبل اسرائيل ضد الفلسطينيين بشكل مستمر، رغم كل دعوات المجتمع الدولي للسلام او حل القضية الفلسطينية بشكل عادل يضمن حقوق الفلسطينيين السياسية والتاريخية والدينية والاجتماعية والاقتصادية.
٣- المشاركة الدولية:
لا يقتصر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على المنطقة؛ لقد جذبت اهتماماً ومشاركة دولية كبيرة، وقد دعت الأمم المتحدة، من خلال قرارات مختلفة، إلى حل الدولتين، وتحقيق السلام، ومع ذلك فقد ثبت أن تحقيق هذا الحل بعيد المنال بسبب انعدام الثقة العميقة، والتفسيرات المختلفة للحدود والمزاعم التاريخية الباطلة لليهود، ووضع القدس.
ولم تحقق الجهود التي بذلها المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، للتوسط في اتفاقيات السلام سوى نجاح محدود. وقد وفرت اتفاقيات أوسلو في التسعينيات إطاراً للمفاوضات، لكنها تعثرت في نهاية المطاف، مما أدى إلى مزيد من العنف وعدم إحراز تقدم في عملية السلام. وكانت هذه العملية (طوفان الاقصى) احد اهم نتائج اخفاق البعد الدولي في حل الصراع العربي الاسرائيلي.
اذ من المفترض ان يكون للمجتمع الدولي دور يلعبه في دعم جهود السلام، وتقديم المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى حل عادل ومنصف، ورغم أن الطريق إلى السلام محفوف بالتحديات، فمن الضروري أن نتذكر أن شرق أوسط ينعم بالسلام والمستقر لا يفيد الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، بل العالم بأسره أيضا، لكن لايبدو بعد هذه العملية ان المجتمع الدولي سيميل الى تسريع جهوده لإيجاد حل وسلام عادل واستقرار في المنطقة انطلاقا من حل القضية الفلسطينية او وضعها ضمن اجنداته الاساسية.
بالتوازي فإن هذه العملية لها ارتباط مباشر بالتطبيع السعودي الاسرائيلي، ماسيعمل على ابطاء وتيرة هذا التقارب ويقوض جهود التطبيع معها ومع الدول المطبعة او يجعلها في موقف محرج ازاء دعمها وتواصلها الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني خاصة اذا ماشنت اسرائيل حرب قاتلة ضد الفلسطينيين.
4- الموقف الاسرائيلي والامريكي:
الواضح ان اسرائيل ستعلن الحرب وتستغل هذه العملية لتحقيق اندماج سياسي داخلي داعم لحكومة نتنياهو لمواجهة معركته في الاصلاحات المقوضة لسلطة القضاء وكبح جماح الاحتجاجات ضده وتحييد المعارضة السياسية وايقاف التحقيق في ملفات الفساد ضده، فضلا عن استدرار عواطف الغرب لدعمه في حربه ضد حماس.
اما الولايات المتحدة فمن المؤكد انها ستقف مع نتنياهو فهي مقبلة على انتخابات وبايدن يريد كسب اصوات يهود الولايات المتحدة، اضافة الى فتح المجال امامه لاي مسار او خيار خارجي ضد محور المقاومة من جهة او انتهاج تغيير او انعطافة في السياسة الخارجية والامنية لإدارته في الاوسط وربطها بالملفات الاخرى.
5- الموقف الفلسطيني:
من المعروف ان الموقف الفلسطيني غير موحد بين فتح وحماس وهنالك تكتيكات متباينة في انتهاج مقاربة التعامل مع الكيان الصهيوني، لكن بعد هذه العملية قد يحصل تقارب بين الطرفين او على الاقل تقل حدة الخلافات وتضطر فتح الى تأييد العملية والمقاومة وتتكامل جهودها معها في المنابر والمحافل الدولية للمطالبة بحقوق الفلسطينيين، وستعطي لحماس وباقي الفصائل زخما واسعا في استمرار نهج المقاومة والتعاطف الاقليمي والدولي معها وخاصة ايران، سوريا، العراق واليمن.
6- العواقب الإنسانية:
وسط التعقيدات السياسية والتاريخية للصراع، من الضروري أن نتذكر العواقب الإنسانية العميقة. وكثيراً ما يتحمل المدنيون الأبرياء، بمن فيهم الأطفال، وطأة أعمال العنف، وقد تضررت أو دمرت المستشفيات والمدارس والبنية التحتية الحيوية، مما أدى إلى تفاقم معاناة أولئك الذين يعيشون في مناطق النزاع في غزة والضفة الغربية ومناطق تواجد الفلسطينيين، وتلعب المنظمات الإنسانية الدولية، مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، دورا حيويا في تقديم المساعدة والدعم للفئات السكانية الضعيفة. ومع ذلك، فإن جهودهم غالباً ما تتعرض للعرقلة بسبب نقص التمويل والقيود المفروضة على الوصول التي تفرضها مختلف أطراف النزاع، والانحياز الواضح لإسرائيل.
إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي اتسم بالاستمرار منذ ٧٥ سنة، يعد قضية راسخة ومتعددة الأوجه ولها أبعاد تاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وإن إيجاد حل دائم يتطلب الالتزام بالحوار والدبلوماسية والتسوية من جميع الأطراف المعنية، لكن بعد الأحداث الأخيرة (عملية طوفان الاقصى) فإن مؤشرات هذه التسوية او تدابير مقترحة للسلام لن تكون قريبة، وخيار المقاومة والتصعيد في ديناميكيات الصراع بين الطرفين سيكون هو الحاضر.